تحميل كتاب السلام عليك يا صاحبي أدهم شرقاوي.. ebooks-pdf
تحميل كتاب السلام عليك يا صاحبي أدهم شرقاوي..
السَّلامُ عليكَ يا صاحبي
تسألني:
لِمَ لمْ تُعاتبهم هذه المرَّة كعادتِكَ..؟؟
فأقولُ لكَ: كنتُ أعاتبهم لأني كنتُ أريدُ أن أبقى
أما الآن فقد اكتفيتُ وأريدُ أن أغادر
وأنا حين أُغادرُ أقفلُ الباب خلفي بهدوءٍ وأمضي، يُصبحُ المرءُ بارداً لشدَّةِ ما احترقَ!
العِتابُ يا صاحبي هو تطهيرٌ للجرحِ، فلا يصِحُّ أن تخيطَ جرحَكَ دون أن تُنظِّفه، ولكنَّ الأمر مختلفٌ هذه المرَّة، ليست كل الجروح قابلة للشفاء، فأحياناً يبترُ الأطباء العضو الذي أصابه التَّلفُ حفاظاً على ما تبقَّى، وهذا بالضبط ما أفعله الآن، أُلملمُ ما تبقَّى مني، وأمضي!
لستُ ضدَّ مراعاة المشاعر بشرط أن لا تُداس مشاعري في المقابل!
ولستُ ضدَّ جبر الخواطر بشرط أن لا يكون كسر خاطري هو الثمن!
قلتُ لهم مرَّةً: إذا وضعتموني بمقارنة مع أحدٍ فلا تختاروني، فهذه إساءة لي ولو تمَّ اختياري، فأنا لا أُقارِنُ ولا أتقارن!
ثم إنَّ هناك ما هو أسوأ من هذا يا صاحبي، وهو أنهم اختاروا غيري، فأي بقاءٍ بعده، وأي عتابٍ يجدي، المهزوم لا يُعاتبُ، ولقد هُزمتُ!
يا صاحبي: عندي ثلاثمئةٍ وستين عظمة وقلب واحدٍ، تركوا عظامي كلها، وكسروا قلبي!
ليتهم كسروا لي عظمةً، وتركوا لي قلبي لأحبهم به!
والسَّلام لقلبك
السَّلامُ عليكَ يا صاحبي
تسألني:
كيف أسيرُ إلى اللهِ... ؟
فأقولُ لكَ: سِرْ على أيَّةِ حالٍ كُنتَ، ركضاً إن استطعتَ، ومشياً إن عجزتَ، وحبواً إن خانتكَ خطواتكَ، وإن عجزتَ عن كلِّ هذا فقِفْ مكانكَ، ولا تمشِ في طريقٍ آخر بعيداً عنه سبحانه، فإنَّ الوقوف في الطريق إلى الله مسير إليه!لا أعرفُ لِمَ خطرَ لي عمرو بن الجموح الآن وأنا أُحدِّثُكَ، لمعتْ صورته في رأسي كالبرق، وكأني أراه جاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ يشكو أولاده الذين أرادوا منعه من الخروج إلى المعركة لأنه أعرج، وليس على الأعرج حرج
ثم قال: واللهِ لأدخُلنَّ بعرجتي هذه الجنَّة
يا رسول الله: إن قُتلتُ في سبيل الله أمشي برجلي هذه سليمة في الجنَّة؟!
فقال له : نعم
فلما وقفَ النَّبيُّ ﷺ فوق جثمانه بعد أن اُستشهد
قال له مخاطباً: كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنَّة وأنتَ ما بكَ من عرجٍ غير الذي في قلبكَ، فما يضُرُّكَ لو مشيتَ إلى الله بقلبك المثخن هذا؟!
ذنبٌ تُصيبه الآن استغفِرْ منه
وتقصير ٌ منكَ اليوم عوِّضه في الغد
واعوجاج أحدثته السَّاعة قوِّمه في أقرب فرصة
اِمسَحْ دمعةً فإنَّ اللهَ عند المنكسرة قلوبهم
واجبُرْ خاطراً فما عُبِدَ الله بشيءً أحسن من جبر الخواطر
اِربِتْ على كتفِ مكسور
وواسٍ قلبَ مخذول
وضمِّدْ نزيف مجروح
هذه الدنيا ساحة معركة يا صديقي، وقلَّما يسلمُ منها أحد، والناس عيال الله، وأحبُّ عباده إليه أنفعهم لعياله!
والسلام لقلبك..
السَّلامُ عليكَ يا صاحبي
تأوي الآن إلى نفسِكَ متعباً كجنديٍّ هو الناجي الوحيد من أفراد كتيبته
وإنكَ لا تدري الآن أتفرحُ لأنكَ بقيتَ حياً، أم تندبُ لأن خسارة المرءِ لأحبابه هو موتٌ آخر ؟!يحدُثُ يا صاحبي أن تُغيِّرنا الدُّنيا، حتى أن المرءَ ليستغرب من نفسه قبل أن يستغربَ منه الآخرون! فيسألُ نفسه في لحظة ذُهولٍ: من هذا الذي لا يُشبهني؟!
هذه الدُّنيا قاسية يا صاحبي، تضيقُ على المرءِ حتى ليشعرَ أنه جالسٌ في خرم إبرة، ما يفيدُ اتساعُ الكون وقد ضاقتْ نفسُكَ عليكَ؟!
يهيمُ المرءُ على وجهه من فرطِ ما يجِدُ حتى أنه ليمشي ولا يعرفُ إلى أين يسير سألتْ عائشة النَّبيَّ ﷺ إن كان قد مرَّ عليه يومٌ أثقل من يوم أُحدٍ فحدَّثها عن يوم رجموه في الطائف، وقال: انطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي لا أدري إلى أين أمشي، ولم أستفِقْ إلا وأنا في قرن الثعالب!
هذا وهو نبيٌّ فكيف بالذين من دونه وكلنا دونه!
ثمة أشياء لا يبررها المنطق، ثمة حزن أكبر منا، ثمة مشاعر لا تحملها الجبال وهي من صخر فكيف نحملها ونحن الذين من لحم ودم؟!
وها أنتَ تهيمُ على وجهكَ، لا قرن ثعالب تستفيقُ عنده، ولا صديق يربتُ على كتفِكَ، وحيدٌ تماماً كآدم عليه السَّلامُ يوم أُهبطَ إلى الأرض وحواء بعيدة عنه، يا للوحشة ما يفعلُ امرؤٌ وحده في كوكب شاسع وقد فارقَ جنَّته، وفقدَ حبيبته؟ تأوي إلى نفسِكَ، وتبكي بمرارةٍ كما لم تبكِ من قبل، وإنك لا تدري ممَ تبكي، خَجِلاً من نفسِكَ، أم موجوعاً من الحياة التي وضعتكَ في معركةٍ تطحنُ العظم، أم من كسر خاطرٍ كان كسرُ عظمكَ أهون عليكَ من أن تكسره؟!
ثم ها أنتَ وحدكَ، تُقررُ تأديبَ نفسِكَ، وإصلاحِ عطبٍ في قلبكَ، وتسألُ اللهَ جبراً للكسر، ومغفرةً للذَّنبِ، وصبراً، فاللهمَّ صبراً!
والسَّلام لقلبك..
السَّلامُ عليكَ يا صاحبي
في فترةٍ من حياته اعتزلَ الإمامُ مالكٍ الناس، فلم يكنْ يشهدُ الجمعة ولا الجماعات، ولا يعودُ مريضاً ولا يمشي في جنازة!
فلما سُئل بعد ذلك قال: ليس كل إنسان يستطيعُ أن يبوح بعذره!
وها أنتَ على خُطى الإمام الأثير على قلبك، تنأى بنفسكَ في ركنٍ قصيٍّ، تعتزلُ ولا تستطيعُ أن تبوح بعذرك، بعض الأعذار لا يقبلها الصَّديق ويشمتُ فيها العدو، ويا للقلوب حين يتنافر ودَّها، تكشفُ لكَ أن أطول مسافة في الكون هي المسافة بين شخصين كانا يوماً ما شخصاً واحداً!يا للصُّحبةِ التي معك، مصحفُكَ، ومدارج السالكين لابن القيم، وتفسير ابن كثير!
تتلو الآن قول ربِّكَ "ومن يُؤمن باللهِ يهدِ قلبه"
يا للجمال، اِرتوِ يا صاحبي، وأَصْلِحْ بآيات ربِّكَ خراباً أحدثته في قلبِكَ، يحدثُ أن تقرأ آية في القرآن فتحتضنك كما لا يمكن لأي ذراعين احتضانك، وتسندكَ كما لا يمكن لأي عكاز إسنادك، وتُعزِّيكَ كما لا يمكن لأي كلام عزاءك، وتُواسيكَ كما لا يمكن لأي قول مواساتك، هذا القرآن حضن وعكاز وعزاء ومواساة، وأحياناً كثيرة ضمّاد لجروح كثيرة لا يراها الناس!
وتقرأُ في المدارج: فإذا اضطربَ القلبُ وقَلِقَ، فليس له ما يطمئنُّ به سوى ذكر الله!
يا لابنِ القيِّمِ كيف يبعثُ لكَ رسائلَ من اللهِ ليُصلح لكَ قلبكَ، ويهبُكَ خارطة الوصول إلى خالقكَ، فإنكَ إن وصلتَ ما همَّكَ بعد ذلك ما فاتكَ من الدُّنيا!وتقرأُ في تفسير ابن كثير قول عبد اللّه بن مسعود عن النبيِّﷺ: سلوا اللّه من فضله، فإن اللّه يُحِبُّ أن يُسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفَرَج!
فتوكل أمركَ لرَبِّكَ وتتعبده بانتظار أن يمنَّ عليكَ بفرجٍ قريب!
تتذكرُ وأنتَ تقرأُ كيف أن شباب دار الأرقم قد رموا جثث صناديد دار الندوة في قُليب بدر!
فتعرف أن لا مستحيل على الله، وأن الزمن يدور ومعه يد الله تسمحُ على قلب المؤمن المكلوم، وأنتَ مكلومٌ يا صاحبي، فاصبِرْ
أما معَ النَّاس فعليكَ بقول عُمر بن الخطاب : اِعتزل ما يُؤذيك!
فمن لم يُقِلْ لكَ عثرةً وطالما أقلتَ له عثراته فاعلم كان ينتظرها منكَ ليرحل، ومن مددتَ إليه يدكَ فأبى أن يمسكها وأنتَ الذي طالما تشبَّثتَ به فقد أراد أن تُفلته هذه المرَّة ليرحل، ومن أطال عتابَكَ فإنما أراد أن يتخلَّص من شعوره بالذنب ويُحملكَ إياه ليُقنعَ نفسه أنه مظلومٌ قد رحلَ! لا تطرق الباب أكثر، ولا تتسلَّقْ جداراً لتصل إلى من لا يريدُ الوصول إليكَ!
حسبُكَ أنكَ قد حاولتَ، ثم الآن، فالهجر بالهجر، والنسيان بالنسيان، وصدُّ الباب بصدِّ الباب!
وقُلْ لهم : إن عثرتم علينا بعد اليوم فعاتبونا
وإن مددنا إليكم يدنا بعد ذلك فاقطعوها
والسلام لقلبك..